في عزاء الصداقة التي ما كانت 🎁
لا يكفي أن تبني بيتًا جديدًا
أعود بعد غياب طويل، في محاولة لاستعادة شيءٍ ما لا أعرف كنهه، ولكن أعرف أني فقدته خلال العامين الماضيين (أو ربما الثلاثين عامًا الماضية؟) ولا بد من استعادته.
هذا الشيء المفقود مني، والذي لا أعرف كنهه، يدفعني إلى التخلُّص من كل الجِيَف النتنة التي أجرُّها معي في صعودي الجبل، ومن تلك الجيف صداقاتٌ ما عادت موجودة، أو ما كانت موجودة أساسًا، غير أنَّ آثارها مع الوقت تتشكَّل على هيئة ذنوبٍ تثقل كاهلي حول ما كان يجدر بي فعله لإنقاذها، ما كان يجدر بي فعله لكي لا أعرضها للموت من الأساس.
لكن ما عدت أريد حمل الذنب على ظهري، أريد الاعتراف به وإعلان موت تلك الصداقات بلا رجعة، ومنحها ما تستحقه من العزاء والندب، وأن أهيل عليها التراب وأمضي. موت الصداقة لا يعني استبدال الحب بالكراهية أو الجفاء. بل يعني أن أعترف أنَّ ما يجمعني بالطرف الآخر مودة رسميَّة تظهر في صدفة اللقاء السريع، احترامٌ عميق من بعيد، لا أكثر ولا أقل. مودة أود تخليصها من مجاملاتي المبالغ بها تجاه الطرف الآخر، من إبداء عاطفة الاهتمام المبالغ بها لإخفاء شكوكي بأنَّ هذه الصداقة ليست حقيقية في عينيّ، وما كانت حقيقية يومًا، ولا حتى ساعة.
لم أعرف كيف أتصرَّف مع تلك الصداقات إلا بعدما قرأت هذا النص بعنوان «صداقة» من كتاب «عن اختفاء الأشياء» (Things That Disappear) للروائية الألمانية جيني إربينبك، وها قد ترجمته لك لعله يفسِّر ما أريد قوله:

«والآن سأخفيكِ في هذا النص. هكذا، بمنتهى البساطة. هيَّا، هلمّي إلى هنا. لكن لماذا، تسألني صديقتي، فأجيبها: هذا بالضبط سؤالي لك. تتساءل، علام كل هذا؟ وأقول: هذا تمامًا ما أريد معرفته منك. هيَّا، هلمّي إلى هنا، أقول لها، وأقفل عليها السدادة، وها كل شيءٍ حولي هادئٌ وساكن. أحيانًا، يحدث أن يعمَّ الهدوء والسكون أجواء الصداقة، بصورٍ مختلفة: الهدوء ما بعد العاصفة، الهدوء ما قبل العاصفة، الهدوء فحسب. وتلك الصورة الأخيرة من الهدوء لها علاقة باختفاء الصداقة، هذا أمرٌ مؤكد. ولربما هذا الهدوء ليس هدوءًا بل صمت، ولربما هذا الصمت في ذاته هو السبب في وقوع الصمت، وفي هذه الحالة يكون الاختفاء حلقةً كاملة من الصمت.
حين أقود دراجتي الهوائية يحدث أن تطير بعض الحشرات إلى فمي ومنخريّ، وتصل فورًا إلى بلعومي، وبلعومي يبتلعها قبل أن أفعل شيئًا لمنع ذلك. لا شيء بيدي فعله سوى التفكُّر بتلك الحشرات على أنها طعام، وبالتالي لن أنزعج من كونها في معدتي الآن. في حال الذباب والبعوض، لك أن تقول إنها قد اختفت في أنفك أو فمك، لكنها في الواقع لم تختفِ؛ هي فحسب حُجبَت عن عينيك. وكلَّ مرة تختفي فيها بعوضة أو ذبابة في أنفي وفمي ويبتلعها بلعومي رغم إرادتي أتساءل إن كان مجرد اختفائها عن عينيّ كافٍ في ذاته لاعتبارها قد اختفت كليًّا، أو إن كان ثمة ذوبانٌ إضافي مطلوب لاكتمال الاختفاء.
السؤال الآخر الذي يخطر لي، لا محالة، كل مرة يختفي فيها شيءٌ ما، هو إن كان ثمة شيء من الأساس موجودًا في ذاك الشيء المختفي، وإن كان، فما كنهه؟ مثلًا، في حال الصداقة، الخفية عن العين منذ البدء، أن الرابط الذي قامت عليه الصداقة التي أندبها ما كان سوى ادّعاء؛ أنَّ هذه الصداقة في جوهرها ما كانت سوى تقاطع مؤقت واصطفائيّ لمجموعتين من الصفات والظروف المتفرقة، والتقاطع الآن انتهى مع انجراف كل مجموعة من جديد في مسارها.
أما التأويل الأكثر رأفةً فهو أنَّ الصداقة كلما تعمقت في اختفائها بات من الأسهل الحفاظ عليها في الذاكرة. أنَّ الصمت السائد في علاقتنا سيربط بيننا ويحتل المساحة ذاتها التي احتلتها يومًا ما كل الأحاديث ونزه التسوق والأماسي في الحدائق وكؤوس النبيذ وفناجين القهوة. أنَّ الإجابات التي لن أنالها منك ستظل مخلصةً لي، مخلصة في غيابها، وللأبد. أنَّ الاختفاء، ورغم دخوله جسدي دون إرادةٍ مني، سيغذيني، وإلى حين سيشبعني.»
سأعود بعد هذا الصباح إلى البيت، وأجمع آثار الصداقات وأحتفظ بها في علبة سأشتريها من مكتبة بوردرز، علبة مبالغ للغاية في سعرها مثل كل شيء آخر أشتريه أسبوعيًّا من تلك المكتبة فقط لكونه جميلًا في ظاهره؛ لكنها علبة تليق بصداقة جميلة بالغنا أنا وأنت في تقدير وجودها.
وقبل أن أودعك بكل الحب
إليك هذا الاقتباس من حسين البرغوثي قد يفسِّر ميلي مؤخرًا نحو الاختفاء:
لا يكفي أن تبني بيتًا جديدًا، يجب أن تبني روحًا جديدة.


تأملات ذاتية في القراءة والكتابة والترجمة، وفي محاولات النضوج بعد سن الأربعين.