من فن وشاي في عمَّان 🫖🍋
ثمة فكرة أعجز عن بلوغها 🍯

اليوم يمرُّ عليّ أسبوع في عمَّان، ضمن "إجازة" مدتها شهر. وأضع إجازة بين علامتي تنصيص لأنَّ المغزى منها ليس فقط الراحة بالمعنى الترفيهي والاستجمامي، بل العمل على مشاريعي الأدبية بمزاج رائق، ما بين لمِّ خيوط نهاية ترجمة، والشروع في ترجمة جديدة، والإعداد الأوليّ لتقديم ورشة في كتابة المقال الفلسفي مع إثراء.
اخترت قضاء الإجازة في عمّان بدل قضائها في الكويت لأنَّ اليوم في عمّان عن يومين ثلاثة في الكويت؛ لا أعرف التفسير العلميّ، لكن الساعة تمرُّ ببطء في عمّان، على أقل من مهلها.
وأيضًا، من باب محاولة التعرُّف إلى عمّان، المدينة التي من المفترض أنّي أنتمي إليها.

تِعْرَفيه للبُسْتاني!
بعد يومين من وصولي إلى عمّان ذهبت إلى مقهاي المفضل، فن وشاي، في جبل اللويبدة. عرفت هذا المقهى الصيف الماضي، والجميل في المقهى أنَّ صاحبته -المصوّرة ليندا خوري- حرصت أن يكون مكانًا ملائمًا لأي فنّان أو كاتب يود التركيز في عمله. وكذلك، التدخين ممنوع منعًا بتاتًا، حتى في المساحة الخارجية. وهذه نقطة مهمة للغاية بعد مرضي الشديد قبل نحو عامين بالالتهاب الرئوي، والذي طالت إصابتي به إلى أشهر، ما بين تحسُّن ونكسة.

المهم، بعد ما طلبت شاي أخضر بالياسمين (والذي أصبح بعد أسبوع مشروبي اليومي)، سألت عن الصور المعلَّقة على جدران المقهى، إذ لم تكن موجودة سابقًا. فأجابني الباريستا أنَّ هذه الصور تعود إلى معرض جرى افتتاحه قبل أيام احتفاءً بنشرها في ملف "مدينة عمّان" في الدورية الأدبية الإنجليزية (The Common)، وأشار إلى مجموعة نسخ من الدورية على سطح البيانو، قائلًا بلطفٍ بالغ "خدي لك فكرة".
توجهت إليها، وقررت فورًا شراء نسخة لأني لا أحبذ تصفح كتاب دون شرائه. غلاف الدورية أخضر تتوسطه ليمونة صفراء. وأنا أحمل النسخة بين يديّ عند البيانو، سألني الباريستا متحمسًا: تعرفيه للبستاني! فأجبته بكل ثقة، وبنبرتي العالية الحادة على حدود النشاز والمعروفة عنّي كلما تحمَّست لإظهار شطارتي، "إي! يعني المزارع!". صَفَن الباريستا لجزء من الثانية ثم ابتسم.
وأنا في طريقي للطاولة، قلت في نفسي، "لهالدرجة على باله ما أعرف شنو يعني بستاني؟ شدعوة!". المهم، جلست وتصفحت الكتاب، كلها كم ثانية و"حسيت حالي بنص هدومي"، كان يقصد بسؤاله الكاتب الأردني هشام البستاني، المشارك في كتابة الملف عن مدينة عمَّان.
طبعًا هذه أول مرة بحياتي أسمع بكاتب أردني اسمه هشام البستاني.

عمَّان: عن ثِقَل المكان وخِفَّته
مقال هشام البستاني هو الأول في ملف عمَّان، بين أحد عشر كاتبًا وكاتبة، وهو أيضًا محرر النصوص المنشورة في هذا الملف، "يعني كاتب مهم". بدأت قراءة مقاله المعنون "عمَّان: عن ثقل المكان وخفته" ساعة الفجر، في بلكونة بيت ماما في عمَّان.
استهلَّ البستاني مقاله بهذه الجملة:
عمَّان ليست مدينة طارئة النشأة.
تمهَّلت عند هذه الجملة للحظات. لا أدري لماذا، لكن شعرت كأنما البستاني كان يكلمني أنا تحديدًا؛ لم يكن ينفي هذا "النشوء الطارئ" عن عمَّان فحسب، بل عنّي أيضًا.
يواصل البستاني من هذه النقطة رسم تحوّلات عمَّان منذ آلاف السنين، حين شكَّلها السيل بين التلال السبعة. قبل أن تتشكَّل لديك فكرة خاطئة، هذه ليست مقالة تمجيدية في تاريخ عمّان العريق ضمن موجة إثبات التفوق الهُويّاتي السائدة في الوقت الحالي ما بعد عصر العولمة، بل قصة تحوّلات مدينة؛ وليست كل تلك التحولات رائعة.
لفتني من هذه التحوّلات مرور قرون على عمّان كانت فيها "خِرْبة"، مجرد شاهدٍ على أطلال رومانية يمرُّ عليها العابرون. لم تنتفض عمّان من سباتها العميق إلا مع مجيء موجة الهجرات الأولى إليها، في القرن الثامن عشر. وهذه الموجة هي الموجة الشركسية التي حوّلت الخربة إلى قرية.
لن أعدّد عليك كل موجات الهجرة واللجوء، لكن مع كل موجة تكبر عمّان المدينة وتمتد. ما جعلني أتأثر بهذه الفقرة أني قضيت أعوامًا من حياتي، أغلبها في العشرينات والثلاثينات، وأنا "خِرْبة"، مجرَّد حُطام لم أعرف كيف أتعامل معه، ولا كيف أنهض منه. لكن، هذا الحطام بدأ يُبعَث للحياة مع ترجمتي الروائية الأولى، ممكن أن نسميها الهجرة الأولى التي وفدت عليّ. وهكذا، مع كل نصٍّ روائي (ولاحقًا غير روائي) أترجمه، هذه الخربة "تِعْمَر" شيئًا فشيئًا.
ثمة فقرة ما أن قرأتها حدَّدتها بالقلم الرصاص، وكتبت على الهامش (أُشْبه عمَّان).
هذه الفقرة تقول:
رغم أنَّ عمَّان مدينةٌ نشطة ومتعددة الأوجه، ففي نسيجها يسري توتٌّر استثنائي: تبدو دومًا في حالة معلَّقة ما بين البقاء والمغادرة، ودومًا يطاردها هاجس اللايقين بشأن هويتها.
هنا تذكّرت شيئًا قاله حسين البرغوثي في روايته السيريّة "سأكون بين اللوز". لا اقتباس محدَّد لديّ عما قال، ولا وقت لديّ للبحث عنه، (وربما لم يقله أصلًا وذاكرتي هي التي تبتدع الاقتباس)، لكن ما قاله أنَّ ثمة مدنًا ننتمي إليها، وثمة مدنٌ تنتمي إلينا.
في تلك اللحظة التي قرأت فيها الفقرة أعلاه، فيما الشمس تطلع بعد ساعة الفجر في بلكونة بيت ماما في عمَّان، واستني معرفة أننيى إن لم أعرف كيف أنتمي إلى عمَّان، فهي حتمًا المدينة التي تنتمي إليّ، منذ شَقَّها السيل قبل تسعة آلاف عام. ❤️
قبل أن أودعك بكل حب

أقرأ حاليًا ديوان الشعر (Modern Poetry) للشاعرة الأمريكية دايان سوس، وأعجبني هذا المطلع:
أتمنى لو بيدي أن أحظى بأفكارٍ أفضل من التي لديّ.
في الواقع، ثمة فكرة أعجز عن بلوغها،
أشبه بعجزي عن بلوغي مرطبان في الرف العلوي.
لا مسند قدم لديّ أقف عليه،
وعاجزة تمامًا عن القفز.

تأملات ذاتية في القراءة والكتابة والترجمة، وفي محاولات النضوج بعد سن الأربعين.