أين أنا من صرخة رضوى 😱

سأكون بين اللوز 🌳

أكتب هذا العدد صباح الجمعة، السادسة والنصف صباحًا، في بلكونة بيت ماما في عمّان، ومن أمامي شجرة سرو باسقة، لا ظلَّ لها ولا ثمر (على وصف بسام حجار). تغريد العصافير مخنوقٌ في هدير السيارات المارة حتى في هذه الساعة المبكرة من صباح يوم جمعة، على الجسر السريع الذي لم يكن موجودًا قبل ثلاث وعشرين عامًا حين اشترت أمي الشقة لأجلنا (حتى يكون لكم بيت في الأردن إذا صار فيني شي).

حينذاك، كان من المعتاد أن ترى قطعان الغنم مع راعيها وكلبها الحارس تجول واثبة مرتاحة على الشارعين شبه الخاويين، بين قطع الأراضي المخضرَّة بالكلأ قبل أن يختفي الكلأ أمام الامتداد العمراني، وتختفي معه القطعان.

                                  رضوى عاشور وحسين البرغوثي بين أشجار اللوز / تصميم GPT 4o
رضوى عاشور وحسين البرغوثي بين أشجار اللوز / تصميم GPT 4o

أقرأ هذه الأيام الرواية السيريَّة «سأكون بين اللوز» لحسين البرغوثي، صدفة عشوائية أشبه بتدبير القدر؛ هذا الإحساس الذي يراودك حين تكون موقنًا أنَّ الكتاب اختارك من بين رفوف القرّاء لا العكس. ما يجعلني أشك في قدريّة الكتاب أنّي كنت انتهيت التو من كتاب «الصرخة» لرضوى عاشور، رواية سيريّة قصيرة توثّق فيها رحلتها مع المرض والعلاج من ورمٍ في المخ لا ينفكّ يعود ويتمدد بعد كل عملية جراحية، جزءٌ ثانٍ من روايتها السيريّة «أثقل من رضوى». «الصرخة» كتابٌ انتهى العمل عليه بوفاة الكاتبة، مع آخر تعديل على حاسوبها، في السابع من سبتمبر ٢٠١٤، في الساعة السادسة وسبع وثلاثين دقيقة من مساء ذاك اليوم. عناوين فصول مؤجلة، لا مراجعات، لا تنقيح، لا إعادة كتابة.

لم أقرأ من قبل لرضوى، ولم أعرف أنَّ باختياري قراءة كتاب «الصرخة» كنت أقرأ آخر ما كتبت. هذه الكتابة بعجالة في سباقها مع ساعة الرمل، لها بصيرتها. فالكاتب ما عاد موهومًا بالوقت المتاح، هذا الوهم الذي يدفعني دومًا إلى تأجيل مشاريعي في الكتابة (ثمة وقت). العجالة نفسها التي كتب بها هيرفي غيير روايته السيريّة بعدما عرف بإصابته بالإيدز «إلى الصديق الذي لم ينقذ حياتي»، حيث الفصول قصيرة مكثفة حقيقية، بلا زوائد. هذه الرواية التي أمنّت له النجاح أخيرًا والاعتراف به كاتبًا روائيًا.

تصوَّر، أنَّ رضوى عاشور، بكل ما حققته في حياتها الأدبية، لم تفارقها شكوكها بقدرتها على الكتابة:

«يقول عني القرّاء إنني كاتبة جيدة، وأحيانًا يستقبلون رواية جديدة لي بترحيبٍ مؤثر. ويبدو من المنطقيّ في ضوء هذا الكلام أن أزداد ثقةً بنفسي، وتسقط الهواجس التي عادةً ما تستبد بي كلما بدأت نصًّا جديدًا، ولكنها لا تسقط غالبًا إلا حين يأتيني مقطعٌ ما أو صفحةٌ أو ربما صفحات تنكتب بسلاسة وسرعة، تفاجئني قوتها فأتساءل كيف كتبتها؟

...ربما تكون المخاوف أمرًا طبيعيًّا لأنَّ الفنانين قلقون بالفطرة، ولأنَّ النساء بحكم الواقع التاريخي الذي تكوَّن في سياقه يفتقدن غالبًا الثقة بالنفس، إن لم ينتبهن ويتعهدن هذه الثقة الهشَّة بالعناية، لأنهن يحتجن إلى اكتسابها لا افتعالها، فتأتي ببطء وتلقائيًّا كالخبرة والنضج وقطع المسافة من الطفولة إلى الرشد.»

وها هي ذي العبارة المؤرقة: قطع المسافة من الطفولة إلى الرشد.

النضج.

هل أنا شجرة السرو؟

شجرة السرو خارج البلكونة توترني. لأول مرة تكون موجودة بهذا العلو. ففي العام الماضي كانت لا تزال قصيرة. بالكاد تلمحها خلف سور الشقة الأرضية في دخول العمارة والخروج منها. والآن تنتصب أمامي. منذ قرأت وصف بسام حجار شجرة السرو في بيتٍ عابر، وأنا أخشاها، لأنها تشبهني أو أنا أشبهها. شجرة لا ظلَّ لها ولا ثمر. شجرة خضراء لكنها تضم كل غصونها وأوراقها إلى جذعها بشدّة ولا تسمح لعصفورٍ واحد أن يقف عليها، ولا تهب فيئًا لإنسان ولا لقطّة ولا لحشرة من حرّ الشمس. ولو كنت مؤمنة بالتقمّص لشككت حقًّا أني سأعود إلى هذه الحياة شجرة سرو. ولو كنت مؤمنة بتحوّلات أوفيد لكانت شجرة السرو هي المسخ الذي سأتحوَّل إليه؛ ولعلَّ امرأةً مثلي، قبل الميلاد بقرون، في عصور العقاب الإلهي بالمسخ، هي أصل السرو.

الأغنية المعلقة في مخي هاليومين:

أغنية لولا يونغ «Messy» اكتشفتها في تك توك، سمعتها أول مرة كاملة بعد أسبوع فوضوي «ومكركب» شككني في نفسي.

أعرف أنك ستظن أنَّ عدد اليوم كئيب. العدد ظاهره كآبة موت الكاتب، أتفق معك، لكن إن أمعنت النظر فالعدد عن شعلة الكتابة في روح الكاتب. هي الفكرة ذاتها في كتاب كيت زمبرينو «أن تكتب كما لوكنتَ ميتًا». هذه النصيحة التي وجهها كافكا إلى نفسه في مذكراته إن أراد أن يكتب وينجز.

لهذا دعني أودعك بكل الحب مع هذا الاقتباس الذي قرأته قبل ساعة من «سأكون بين اللوز»:

«شعرت برائحة موت في الجوّ، ومات وجهي. لا أعتقد بأنَّ أحدًا سمع عن «موت الوجوه» بعد. وجهي مات. قلت لبترا أن علينا أنا وهي وآثر، أن نهاجر، إلى كندا، ربما، قبل أن تنتش رائحة الموت أكثر. الفرار! ولكن فلسطين قفص. وبدأت أعرق، في الليل، أستيقظ على ضوء مصباح أحمر خافت، وأنا أنضح عرقًا، حتى أنَّ قميصي قابل لأن أعصره وكأنه كان منقوعًا في حوض ماء. وجع غريب في البطن والظهر، وإنهاك، وفقدان وزن، وشهية، وحكة تحت الجلد، وانهرت. لقد مرض الجبل بالسرطان!

وبدأت أرجع سرًّا إلى جبال الطفولة المقمرة، إلى هذا الجمال الذي سبق وخنته، رجعة غير محكمة. واكتشفت بأنني ابن الحياة، لا الموت. وشيء في الجبل كان يقول لي، كلما حدقت في الزيتون والأودية المقمرة: حتى ولو بقيت لك سنتان للعيش، فإن سنتين هنا أعمق من قرنين «هناك». قاوم! هذه الأرض لك، قاوم! كنت واقفًا أمام الشباك، مطلًّا على الحرش والصنوبر واللوز، وخطر ببالي أنَّ بترا، زوجتي، ستنهار إن انهرت، «قاوم، لا لأجلك، قاوم!» وشعرت بأنَّ الجبل يهتف بي: «قل لها، مهما حدث، إن زرتني، سأكون بين اللوز! ستكون شمس، يكون نوار يتطاير في الهواء، وتكون جنائن، ويكون نحل وطريق نحل، وحتى يأتي ذلك الوقت، قاوم.»

عصر النضوج
عصر النضوج
كل يوم سبت

تأملات ذاتية في القراءة والكتابة والترجمة، وفي محاولات النضوج بعد سن الأربعين.