لماذا عصر النضوج 🫴🏻

أريد أن أعرف أين أنت 📬

الساعة الآن ٨:٥٩ صباحًا، يوم الجمعة، ولم أكتب شيئًا حتى الآن. أعرف الموضوع ولدي المصادر من صور وكتب، وفي ذهني صورة ضبابية عن العدد الأول منذ أسابيع، لكن حين جدَّ الجد، وساعة الرمل انقلبت معلنةً الساعات الأربع والعشرين الأخيرة قبل الإرسال، ها أنا أحدِّق ببلاهة في الشاشة! منذ ساعة ونصف!

إن تعلمت شيئًا من عملي في نشرات ثمانية، فهو أنَّ «الحبسة» امتياز لا تتمتع به حين تكون مسؤولًا عن إصدار نشرة يومية لمنصة. هذا الدلع الوجودي الذي تطبطب فيه على كتفك، وتلوم فيه دماغك على قرارك تأجيل الكتابة يومًا آخر متى كنت تعمل على مشروعك الشخصي. (وكلنا نعرف كيف تتحوَّل الأيام إلى أعوام، والأعوام إلى رماد.)

الحل؟ دبِّر نفسك بما لديك، دع دماغك يقرر ما النص الذي هو مستعد اللحظة لكتابته بعيدًا عن خططك المسبقة.

لذا سأدبِّر نفسي بما لديّ. وسأبدأ من هذا الجهاز الذي أطبع عليه الآن. الحاسوب هو جهاز ماك إير ٢٠٢٤ من أبل. اشتريته قبل نحو شهرين بالمبلغ المالي الذي ورثته عن أبي رحمه الله. توفي والدي في الحادي عشر من ديسمبر ٢٠١١ (أظن أنَّ هذا هو التاريخ، قد يكون الثاني عشر من ديسمبر ٢٠١١، أو الحادي عشر من ديسمبر ٢٠١٢). لا أحفظ تاريخ وفاة والدي لأنه مرورٌ عابر لا أستذكره، لم يحفر دماغي ندبةً في ذاكرتي أستدل بها على التاريخ.

قبل نحو عام بلغنا اتصال من عائلة والدي في الأردن بأنَّ لديه حسابًا في البنك العربي رصيده عشرون ألف دينار أردني. وهم في حاجة إلى التواصل مع الورثة لتوزيع المبلغ. بعد توكيل محامٍ تولَّى عنا مشاوير الدوائر الحكومية، نال كلٌّ منا نصيبه بعد دفع الضرائب والرسوم المستحقَّة للدولة، وعُتِقت رقبة أبي. ما عاد ثمة شيء معلَّق بعد وفاته سوى أحلامه وأولاده والذكريات الأليمة لدى أمي، وهذا تعليقٌ لا أحد يعتقنا منه من بعدنا.

نصحتني أمي بشراء الذهب حتى لا تضيع قيمته، فهذا ورث، لكن لم أقتنع. هذا المال ظل جامدًا ما يزيد عن عشر سنوات، ولم أرد أن يظل جامدًا على هيئة ذهب. أردت أن أحرر هذا المال الذي ادّخره أبي دون أن يحقق به شيئًا لنفسه، أو حتى يستمتع به في حياته، وأحاول به تحقيق شيءٍ لنفسي: إطلاق مشروع النشرة البريدية، وكتابة روايتي المقبلة.

وأنا أبحث قبل قليل في كتاب آن كارسون (Plainwater) عن الفقرة التي ذكرت بها الفنانة والنحاتة الفرنسية كاميّ كلوديل، لفتتني الفقرة أسفلها بعنوان «المشي خلفًا» (On Walking Backward):

منعتنا أمي من المشي خلفًا، قائلةً "هكذا يمشي الأموات". لا أدري من أين خطرت لها هذه الفكرة. ربما من ترجمةٍ سيئة. فالميت لا يمشي خلفًا، بل يمشي خلفنا، عاجزًا عن مناداتنا لأنَّ لا رئة له، لكن سيحب لو التفتنا إليه.

ربما هذا ما أفعله الآن بكتابتي النشرة على الحاسوب الذي اشتريته بمال أبي: ألتفت إليه، وإن كنت لست واثقة إن كان سيحب التفاتتي.

كتاب آن كارسون حيث الاقتباس، وكاميّ كلوديل.
كتاب آن كارسون حيث الاقتباس، وكاميّ كلوديل.

لماذا أطلقت على نشرتي اسم «عصر النضوج»؟

منذ خطرت على بالي فكرة إنشاء نشرة بريدية خاصة بي، منذ نحو عامين، خطرت لي فورًا باسمها: «عصر النضوج». الاسم ليس من بنات أفكاري، بل اسم منحوتة للفنانة الفرنسية كاميّ كلوديل. أنا أميل إلى العناوين المقتبسة أكثر من المبتدعة، وروايتي «لن تجد الشمس في غرفة مغلقة» شاهدٌ على ذلك، وكذلك عنوان مشروعي الروائي القادم «نادني اسماعيل الليلة» عن قصيدة للشاعر آغا شاهد علي.

عرفتُ الفنانة قبل المنحوتة، من خلال قراءتي أول كتاب لآن كارسون (التي سأكسر معها قاعدة قراءة كتابين على الأكثر لكل كاتب). كتب آن كارسون عجيبة غريبة، ولا تعرف أساسًا كيف تصنفها، أهي شعر أم سرد أم فانتازيا أم كتابة ذاتية؟ هي تكتب ما تشاء على الكتاب. لكن لديها أسلوبها الذي تفضله في كل الأشكال: الكتابة الشذرية. حيث الكتابة أشبه بكولاج من الأفكار والاقتباسات والتأملات والقصص.

في الجملة الأولى، كتبت آن كارسون:

كاميّ كلوديل قضت آخر ثلاثين عامًا من حياتها في مصحٍّ عقلي دون أن تدري السبب وراء إيداعها. وما انفكَّت تطرح السؤال لأعوام في رسائلها إلى أخيها الشاعر الذي أودعها المصح، دون أن تصلها إجابة.

عرفت من الفقرة أنها نحاتة، وطوال سنوات وجودها في المصح رفضت نحت أي شيء، رغم إمدادها بكل المواد الخام. فبحثت في قوقل عن أعمالها، ووجدت منحوتتها «عصر النضوج» (L'Âge mûr). فتاة جاثية على ركبتيها، تستجدي حب الرجل والمرأة الأكبر منها، وهما يمضيان عنها.

أوَّلتها ببني وبين نفسي أنَّ لا شيء يدلُّ على طفوليتك أكثر من استجدائك الحب والقبول من الآخرين، ولن يسعك الدخول في عصر النضوج إلا بتخلصك من هذا الاستجداء. هذه المنحوتة انعكست لديّ على رسم شخصية «أيمن» في روايتي «لن تجد الشمس في غرفة مغلقة».

في رحلتي الثانية إلى باريس، في عام ٢٠١٨، زرت متحف أورسيه حيث المنحوتة. التقطت صورة، وجلست على مقعد المتأملين أمامها. أدركت أنها ستكون عنوانًا لتأملات أكتبها. حينها لم تكن فكرة النشرات البريدية مألوفة لديّ. وبعد تأجيلات عديدة. هأنذا أكتبها إليك.

منحوتة «عصر النضوج" من تصويري في متحف أورسيه ٢٠١٨
منحوتة «عصر النضوج" من تصويري في متحف أورسيه ٢٠١٨

تحديثات سريعة 🌹

الكتاب الذي أنهيت قراءته هذا الأسبوع

  • «روايتي لروايتي» للروائية الفلسطينية سحر خليفة

روايتي لروايتي لسحر خليفة
روايتي لروايتي لسحر خليفة

الكتاب المرافق

  • كتاب (Tone) للكاتبتان الصديقتان كيت زمبرينو وصوفيا ساماتار.

كتاب (Tone) بدرجات اللون الأزرق تقف عليه نم نم.
كتاب (Tone) بدرجات اللون الأزرق تقف عليه نم نم.

الحدث المثير في حياتي هذا الأسبوع خارج مكتبي

  • حضور فلم (The Fall) في مركز الشيخ جابر الثقافي هذا السبت بدعوة من أختي الجميلة ديمة.

الأغنية اللي معلقة في مخي هاليومين

أودّعك الآن، بكل الحب، مع هذا الاقتباس من مقدمة رسالة كتبها جبران خليل جبران إلى ميخائيل نعيمة، ووجدتها محفوظة في تطبيق (Notes):

أخي ميشا

سلامٌ عليك وعلى قلبك الكبير وروحك الطيبة. وبعدُ فإني أريد أن أعرف أين أنت، هل أنت في غابة أحلامك أم في مسارح أفكارك أم على قمة ذلك الجبل حيث تتحوَّل جميع الأحلام إلى رؤيا واحدة وجميع الأفكار إلى ميلٍ واحد؟ أخبرني أين أنت يا ميخائيل.

عصر النضوج
عصر النضوج
كل يوم سبت

تأملات ذاتية في القراءة والكتابة والترجمة، وفي محاولات النضوج بعد سن الأربعين.